الخميس، 6 يناير 2011

"الصلاح طريق المِلاح"


"تخرج "كريم من المدرسة العليا لتكوين الأطر الإدارية والتحق بشركة حرة براتب لا بأس به، اقترض من البنك واشترى سيارة، واكترى شقة صغيرة واستقل بعيدا عن أسرته. بين العمل نهارا وزيارة الأسرة في نهاية كل أسبوع عاشر الكثير من الأصدقاء بالمقاهي والكثير من المومسات بغرفة نومه المتسخة. كان يعيش حالما، بحياة أرقى وهواء أنقى بمدينة أوروبية حيث يتذوق النبيذ في جلسات ببدلات رسمية أنيقة مع بنات شقراوات لكنتهن أصلية وبشرتهن صافية.
الصلاح طريق المِلاح - Hespress


 كانت تغيب أحلامه مع بداية الشهر حيث يتقاضى الراتب فيهرع لأجنحة المأكولات الجاهزة بالأسواق الممتازة ومتاجر العطور بالمراكز التجارية، فيلقي نظرة على آخر الأجهزة الإلكترونية وما استجد من أشكال الهواتف المحمولة، ويتحسر على قلة الموارد رغم عمله الشاق اليومي الذي يبذل فيه من أحاسيسه وطاقته في التعامل مع رفقاء العمل والمدراء أكثر مما يبذل في إنجاز العمل نفسه، ثم تعود أحلامه تشرق وتضيء مع آخر دراهم من الراتب بعد أن خبت وهجرته في أوقات اليسر، ويتذكر أوروبا والطرق السريعة الواسعة والخضرة الزاهية بأرجاء المدن والشقراوات النحيفات!

كانت عشرة صديقه عبدو المراكشي جد ممتعة، تنسيه هموما لم تزره بعد، هموم المستقبل وكيف ينتقل إليه بسلاسة دون أن يخدش متعته بحاضر الحرية والآمال، كيف ينشئ أسرة وبيتا مستقرا وغرفة نوم نظيفة يُبقي بها كل المتع. مع كل التقاء للصديقين تتفرق بينهما سبل الأفكار فلا مفر من الجدال والمغالاة في محاولات الإقناع.  كان عبدو من مبجلي العلماء والفقهاء والدعاة وكل من ألقى خطبة في مسجد وكل من وضع على رأسه عمامة، فإن أبدى كريم اعتراضا أو أعلن جهرا نقطة نظام وتمعُّنٍ وتدبُّرٍ فيما ينقله عبدو عن أفواه غيره هَلَك. وفي قصة الإمام محمد عبده عبرة فيما جاء في معناها أن الشيخ السنوسي رحمه الله كتب كتابا في أصول الفقه المالكي زاد فيه بعض المسائل على أصول المالكية بدعوى أنه يفهم أحكام الكتاب والسنة مخالفا لما يراه المجتهدون في ذلك، فسمع بذلك أحد مشايخ المالكية، وكان المقدم في علماء الأزهر، فحمل حربة وقرر ملاقاة الشيخ السنوسي وقتله لكونه خرج في خطبه عن الملة والدين، لولا أن هذا الأخير فارق القاهرة قبل أن يرتكب الشيخ الجريمة باسم الشريعة.

ورغم اختلاف كريم مع عبدو في التوجهات الفكرية، كان الحديث إليه شيقا ومجاورته في المقاهي متعة يومية يأبى التنازل عنها. كان يحس بنوع من الأمن جنب عبدو يستمد نفحة الطمأنينة العائلية التي هرع مبتعدا عنها إلى شقته المتسخة من استقرار هذا الصديق النفسي وواقعيته في تقبله وتجسيده لهويته، فهو بإسلامه مصل عابد معترف بخطئه عند المعصية متجاوز التهريج عند قدسية الدين، وفي أصوله العربامازيغية متشبث بمداركه في اللغة متفاخر بشكله ولونه وعرقه، وفي مغربيته منصهر في حبه لتراب الوطن والأفراد مع اختلافهم متفاعل مع الأحداث والأخبار سواء قربت أم بعدت المسافات بينه وبين بلده. انتشى كريم بعبقرية صديقه في التمسك بما له واستغنائه بما لا يملك منه شيء، ورافقه كريم في الخطوة حتى بات يدخل معه المساجد للصلاة ويقرأ الجرائد صباح مساء واتخذ صديقة واحدة دونا عن كثرة الرفيقات..  لم يَعِدها بما لا يعرفه وما تحدثت هي قط عن شيء اسمه زواج.

انتشل عبدو على ما يبدو كريما من عمى التقليد ولفه بعباءة الهوية.. هي بعينها.. هي الصحوة!

اصطدم كريم بالواقع حين انفجرت قوقعة أحلام كانت تقيه هول الواقع، وارتطمت آماله بعرض الحائط واجتُر البساط الأحمر النبيذ من تحت قدميه، وأوصدت الهوية أبواب أوروبا بكل المغريات التي كانت تحملها رياح المتوسطي. كاد عقل كريم يتهشم من فرط الاصطدام، وأحس نفسه عاريا بين ماض من غفلة وحاضر فارغ من ألم وحسرة. كان عليه أن يصوغ أحلاما جديدة تناسب شكله الذي يوحي بأنه مغفل أكثر مما يوحي أنه موظف مثقف، تناسب عقله، عقل رجل كهل عاش أكثر مما ينبغي، أحلاما مكملة لما بدأ غير معارضة لمبادئ ما تعلم وعَلِم حتى يكمل الطريق.

فهم  كريم كلمة ظلت تائهة عن بديهته معظم الوقت، كلمة معناها "المسؤولية"، فقد أدرك بعض مهامه في الحياة، كمسلم أمام عقيدة وصورة وسمعة، ورجل أمام أسرة وامرأة، ومغربي أمام بلد ومواطنة، واستنتج هزالة راتبه وقبح الانتماء إلى طبقة غنية بالديون الربوية فقيرة بمواردها المالية عند التفكير في التعبد والزكاة والحج، والاستقرار والزواج والإنجاب، والتبرع والعمل الجمعوي، حين يظن الفرد وهو لا زال فردا غير آبه بمسؤولية أنه "برجوازي"، فكأس حليب في اليوم، وپيتزا، وقهوة سادة لا يمكن أن تساوي إفطار شخصين وغذاء خبز وطاجين بلحم وخضار وفاكهة وعشاء متكاملا، هذا إن تحدثنا عن عقم مستمر..

جلس كريم، وفكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر... الواقع فاسد، ولكي لا يصطدم بالواقع، عليه أن يفسد قليلا، ثم ينتشل نفسه حتى يكون قد حفر لأحلامه طريقا معبدة نحو المستقبل، وإلا عاش في عالم فانتازيا حتى يذهب إلى عالم البرزخ. بالفساد يميل ميزانه إلى اليسار فتعتدل حياته ثم يعدله بالتقوى، وإن بقي فقيرا فقد قيل أنْ كاد الفقر أن يكون كفرا. بالفساد يفرغ الكبت فيعصى ثم يصلي بين الشوطين ويغتسل مما قدمت يداه ويتوب وينسى. بالفساد يصنع وضعا اجتماعيا لائقا في بلد كثرت فيه "الأوضاع" الاجتماعية ثم ينتسب إلى جمعية تدافع عن الوحدة الترابية والحسنة تذهب السيئة. بالفساد سيسمو كريم، وبالفساد كريمٌ سيحيا!

وقد جاء في الدراما الأمريكية "ذ كروسيبل" ـ الإناء/ الخلاط ـ لكاتبه أرثر ميلر أن الفساد لا يعني إتباع ميزان العقل الفاصل بين الحق والباطل، رغم كون إتباعه يريح من أوجاع الضمير، بل إنه السير على نهج ما تحدده الجماعة حيث الفرد منعدم الرؤية والوجهة مسير بالدستور المقرر للمجتمع. انتهاء "جون پروكتور" بطل المسرحية عن الزنا أسقطه في فخ كيد النسوة فحُوكِمَ بجرائم السحر والفساد والخروج عن نظام المواطنة. وحُوكِمَ معه كل من تجرأ الوقوف جنبه أو الدفاع عنه. قصة تذكر بسيدنا يوسف عليه السلام وسجنه بالباطل لما أعرض عن البغي.

كما ينجلي الغوص والتملص من الفساد بتواز مع المنحنى الزمني للحياة ومعلم الوقت في العقل المستمر بين الماضي والحاضر والمخترق لغموض المستقبل بالخيال عند المفكر المسرحي المغربي الطيب الصديقي في فيلمه "الزفت"، في سيرة فرد علاقته بمحيطه تهدم صور الكمال في مخيلته، وعلاقته بأحلامه هزمت بالهواء الفاسد الذي يستنشقه. وكأن الفقر يحجب بظلاله سبل الخروج منه حتى أقبحها وأقربها إلى طرق الشيطان.

إن قرر كريم تحرير فرصه بالفساد فقد انهزم أمام ضميره وأفلح في مسايرة المجتمع.

لكن، كيف يفسد؟ وكل من حوله يعلمون بجبنه وصدقه... وذاك الرجل الكهل الحكيم الأخرق الذي يسكن داخله...
كيف يفسد؟ والفساد أصبح محجوزا كطاولات مطعم فاخر ليلة رأس السنة!

كيف يفسد وحتى الفساد أصبح مخصصا لذوي الدخل المرتفع، وبقي للبروليتاريا الصلاح والخلق رغما عن أنف الفقر.

مايسة

ليست هناك تعليقات:

اضافة تعليق

ترقيم الصفحات

جميع الحقوق محفوظة © 2013 سمفونية التاريخ ....
تصميم : يعقوب رضا